[b]معاصى اللسان
الشرح: بيان معاصى اللسان وهى أكثر المعاصِى التى يفعلُها ابن ءادم كما ثبت فى الحديث: "أكثرُ خطايا ابنِ ءادَمَ مِنْ لِسَانِهِ". والحديث صحيح رواه الطبرانى عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن معاصى اللسان:
الغِيبة وهى ذكرك أخاكَ المسلمَ بما يكرهُه مما فيه فى خلفه.
الشرح: أن من محرمات اللسان الغيبة. والغيبةُ كما عَرَّفَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هى ذكر مسلمٍ فى خلفِهِ بما لا يحبُ أَنْ يقالَ عنه مما فيه مما يكره مما هو فيه. ومثالُ ذلك أَنْ يقولَ الشخصُ عَنْ ءاخر: فلانٌ قصيرٌ، أو فلانٌ سَىّءُ الخُلُقِ، أو فلانٌ وَلَدُه قَليلُ الأدبِ، أو فلانٌ لا يرى لأحدٍ فَضْلاً، أو فلانٌ تحكمُهُ زوجتُه، أو فلانٌ كثيرُ النومِ أو كثيرُ الأكلِ، أو وَسِخُ الثيابِ، أو بيتُهُ غيرُ مرتبٍ، وما شابه ذلك. فلو تَعَلَّقَتْ مثلُ هذهِ الألفاظِ بنفسِ المسلمِ الآخرِ أو بأحدٍ من أهله أو ببيتِهِ أو بثوبِهِ أو بنحوِ ذلك فهى غيبةٌ محرمةٌ. لكنَّ قسما من مثل هذه الألفاظِ قد تُستعملُ أحياناً للمدحِ فلا تكونُ غيبةً كأَنْ يقالَ أثاثُ بيتِ فلانٍ عتيقٌ ويرادُ بذلك وصفُهُ بالزهدِ وعدمِ التعلقِ بالدنيا. فهنا لا يكونُ هذا ذمًّا بل يكونُ مدحًا فلا يعتبر غيبةً.
والغيبةُ قد تكونُ كبيرةً وقد تكونُ صغيرةً. فإذا كانَ المغتابُ -أى الشخصُ الذى يُغْتابُ أى يُتَكَلَّمُ عنه بالغيبةِ- تقياً فغيبتُه كبيرةٌ. أما إذا كانَ المُغْتَابُ فاسقاً فلا تعتبرُ غيبتُه كبيرةً، إلاّ إذا وصلَ الأمرُ إلى حدِّ التفاحشِ فغيبتِه بحيث يغتابُهُ كثيراً تصيرُ كبيرةً، لأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ مِنْ أَربَى الرّبَا اسْتِطَالةَ الرجلِ فى عِرْضِ أَخِيهِ المسلمِ". ومعنى الاستطالةِ أَنْ يكثرَ من ذمّهِ، فيكون هذا ذنباً كبيراً هو مثلُ ذنبِ الربا بل هو مشابِهٌ لأربى الربا أى لأشدِّ الربا. والحديث رواه أبو داود. كلُّ هذا إذا كانَ الكلامُ الذى يقالُ فى ذَمِّ ذلكَ المسلمِ فيه. فإن كان كذباً فالمعصيةُ أشدُّ، وتسمى البهتانَ. وكما يحرمُ أن يتكلمَ الشخصُ بالغيبة يحرمُ عليه أن يسكتَ عن إنكارها مع القدرة. وأما التحذيرُ من أهلِ الفسادِ والغش فلا يدخُلُ تحت الغيبة المحرَّمة، وإنما يدخلُ فى باب الغيبةِ الواجبةِ. وذلك مثلُ أنْ يَعْرِفَ أن عاملاً يعمل عند شخص يخونُه، فهنا لا بد أن يُبَـيّن لصاحب العمل. كذلك لو عَرَفَ أن إنساناً يتصدرُ للتدريس وهو ليس أهلاً ففى هذه الحال لا بد أن يُحذّر منه.
والنَّميمةُ، وهى نقلُ القولِ للإفسادِ.
الشرح: أن النَّميمةَ معناها أن ينقل كلاماً بين اثنين من واحد لآخر ومن الآخر للأول وهكذا حتى يُفْسِدَ ما بينهما. فهذا حرام من الكبائر. وقد صح فى الحديث "لا يدخُلُ الجنةَ قَـتَّات" والقتات النمّام. يعنى لا يدخُلُها مع الأولين، إنما يدخلها بعدَ عذابٍ مع الآخِرين أى إن لم يعف الله عنه، والحديث فى البخارى وغيرِه. والنميمةُ من أكثر أسباب عذاب القبر. ومثلُ النميمة فى تسبيب عذاب القبر للمسلم الغيبة وعدم التنـزهِ من البول.
والتحريشُ من غيرِ نَقْلِ قولٍ، ولو بينَ البهائم.
الشرح: أن من حَرَّشَ بين اثنين بقول أو بغير نقل قول بينهما فهو ءاثم. أى إن حرك كلاًّ منهما حتى يعادِىَ الآخرَ ويخاصِمَهُ ويؤذيَهُ. وكذلك التحريش بين البهائم حرام، مثل أن يحرّش بين دِيكين أو جَدْيَيْنِ ليتقاتلا، فإن هذا حرام لا يجوز فى الشرع، ولو لم يصاحِبْهُ رهانٌ على مال.أما التحريش بين خنزيرين مثلا فليس حراما لأن الخنزير يستحب قتله
والكذبُ، وهو الكلامُ بخلافِ الواقِع.
الشرح: أن من معاصى اللسان الكذبَ. والكذب معناه أن يخبرَ الإنسانُ عمداً بما يَعْلَمُ أنه خلافُ الواقع أى وهو يعرف أن الواقع غيرُ ذلك. هذا هو الكذب المحرَّم. أما إن لم يكن يعلم أن الأمرَ على خلاف ما هو أخبر بل اعتقد أنه الواقع فهذا ليس الكذب المحرم. والكذبُ معصيةٌ سواءٌ كان فى جِدٍّ أو فى مزح. وهو مراتبُ منه ما يَبْلُغُ درجةَ الكفر، ومنه ذنبٌ كبير دون الكفر، ومنه ما هو من صغائر الذنوب. وقد يَحِلُّ الكذب فى بعضِ الأحيان، وذلك كأن يُريدَ شخصٌ قتلَ مسلم ظلماً فيختبئ المظلوم عندك، فيأتى الشخصُ الذى يريد إيذاءه فيقول لك هل فلان عندك وأنت لا تقدِر على منعه من إيذائه لو قلت نعم فإنه ليس لك أن تقول فى هذه الحال نعم هو عندى، إنما تَحْمِى أخاك المسلم من الظلم ولو بالكَذِب.
واليمينُ الكاذِبَة.
الشرح: أن من معاصى اللسان اليمينَ الكاذبةَ وهى من كبائر الذنوب. ويقال لها اليمينُ الغَمُوسُ، لأنها تغمِسُ صاحبَهَا غَمْساً فى الذنب. وأما إذا حلف الشخص باللهِ أو بصفاتِهِ وهو صادق فلا إثم فى ذلك. أما إن حلف صادقاً بغيرِ الله تعالى كأن حلف بالنبى أو بالكعبة فقد اختلف علماء الأمة فى ذلك. منهم من قال-كالشافعى-مكروه كراهة شديدة ولا يصل إلى درجة الحرمة. ومنهم من قال-كالإمام أحمد-هو حرام. واليمين الكاذبة عُدت من كبائر الذنوب لأن تَجَرُّأ الإنسان على أن يَحْلِف بالله مع كونه كاذباً أى تَجَرُّأهُ على أن يورد اسم الله أو صفة من صفات الله فى الحلف الكاذب فيه تهاونٌ فى تعظيم الله عزّ وجلّ، ولذلك هى من كبائر الذنوب.
وألفاظُ القذفِ، وهى كثيرةٌ حاصلها كلُّ كلمةٍ تنسبُ إنساناً أو واحداً من قرابته إلى الزنـى. فهى قَذْفٌ لمن نُسِبَ إليه إِمَّا صريحاً مطلقاً أو كنايةً بنيةٍ.
الشرح: أن من معاصى اللسان قذفَ المسلمِ بالزنى، سواء كان ذلك صريحاً أو كناية بنية. مثال ذلك أن يقولَ شخصٌ لآخر يا زانٍ ، أو أن يقول له يا ابن الزانى أو يا ابن الزانية، أو أن يقول له يا لائِطُ، وكل هذا صريح. كذلك لو قال له يا فاجرُ ونيتُه بكلمة فاجر نسبَتُهُ إلى الزنا فهو أيضاً قذف، أو قال له يا فاسق ومرادُه نسبته إلى الزنا فهذا أيضاً يُعَدُّ قذفاً. والقذف من كبائرِ الذنوب وفيه الحد أى فيه عقوبة مبينة ومحددة فى الشرع. أما لو عَرَّضَ تعريضاً به فهذا وإن كان حراماً لا حَدَّ فيه. وذلك كأن يقولَ بقصدِ أن يطعن به: يا ابن الحلال ونيتُه عكسُ ذلك، أو كأن يقول: أما أنا فلستُ بزانٍ ونيتُه أنك أنت زانٍ. هذا يقال له تعريض وهو حرام، لكن لا حَدَّ فيه فكل ما مَرّ من القذف هو ذنب كبير. لكن فى الحالة الأخيرة لا حدَّ فيه. إنما فيه التعزير، أى عقوبةٌ يراها الحاكم مناسبة لزجره مثل الضرب أو الحبس . وَيُحَدُّ القاذفُ الحُرُّ ثمانينَ جلدةً والرقيقُ نصفَها.
الشرح: أن حدَّ القذف ثمانون جلدةً بالسوط، هذا إذا كان القاذف حراً فحدُّه ثمانونَ بالإجماع. وأما العبدُ فحدُّه نصف ذلك أى أربعونَ جلدة. ويستثنى من الحد قاذفُ ولدِه فلا يُحدُّ.
ومنها سبُّ الصحابة.
الشرح: أن من معاصى اللسان سبَّ الصحابة. فإن سَبَّهُمْ شخص كُلَّهُمْ أى إن شَمَلَهُم كلَّهم بالسب والاستهزاء فهو كافر، لأنه بهذا يهدِمُ الدين، لأن أحكام الدين ما وصلتنا إلا من طريقهم. فالذى ينسب إليهم كلّـِهِم عدمَ العدالة يكون مُؤَدَّى كلامه رفعَ الثقة بالشرع الذى نقلوه وتكذيبَ ءاياتِ القرءان وهذا كله كفر. قال الله تعالى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان: {رضى الله عنهم ورضُوا عنه وأعدّ لهم جناتٍ تجرى من تحتها الأنهار}[1]. فمَن زعم أن كلَّ الصحابةِ مذمومون فقد كذَّب هذه الآية. أما الذى يشتُمُ واحداً من أتقياءِ الصحابة فهو ءاثم بلا شك. وليس من الانتقاص للصحابةِ أن يقال إن من قاتل عليّاً كان باغياً. وذلك لأن بعضَ الصحابة وقفوا فى صفِّ من قاتل عليّاً، والإمام علىّ كان خليفةً راشداً واجبَ الطاعة. فمن خرج عن طاعته وقاتله فهو ءاثم، وذلك مثل معاويةَ بنِ أبى سفيان فإنه بَغَى بقتاله للإمامِ علىّ. وقد نبَّهَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمرِ قبلَ حصولِهِ بقوله: "ويحَ عمارٍ تقتُلُهُ الفئةُ الباغيةُ، يدعوهُم إلى الجنةِ ويدعُونَه إلى النّار"، وهذا حديثٌ صحيحٌ بل القسم الأول منه – أي إلى قوله الباغية - متواترٌ رواهُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نحو عشرينَ منَ الصحابةِ منهُم معاويةُ نفسُهُ. ثم قُتِلَ عمّار فى صِفّـِين قتَلَهُ جنودُ معاوية. فإذا قال إلانسان بأن من حاربوا سيدنا عليّاً كانوا بغاةً فهو إنما يقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا حرج فى ذلك. لكن مع أنه وُجِدَ بين الصحابةِ من أتى بعض الذنوب الكبيرة، فإنهم من حيث الإجمال كانوا على خيرٍ عظيمٍ جداً. قرنُهم خير القرون. مِنْ مَزِيَّةِ قَرْنِهِمْ أنه لم يكن هناك اختلافٌ فى العقائد فيما بينهم. ذلك العصر ما كان هناك اختلاف فى العقائد بين أهله، كلهم كانوا يعتقدون أن ربَّنا عزّ وجلّ واحد لا شريك له قادر على كل شىء لا يعجزه شىء، وأنه لا يحصُلُ شىءٌ إلا بمشيئتِهِ، فالخير والشر كلاهما بمشيئة الله (وإن كان الله لم يأمر بالشر)، وأن الله عالم بكل شىء، وأن ربَّنا عز وجل لا يشبه الخلق، لا يشبه الإنسان ولا يشبه الملائكة ولا يشبه الجن ولا يشبه الروح ولا يشبه الضوء ولا الظلمة، وأنَّ كلَّ ما كان من صفات الخلق فالله غيرُ موصوفٌ به لأنه لا يليقُ به - لم يكن فيهم أحد يعتقد أن الله جسم. ثم إنهم كلَّهم كانوا يعلمون أن التغيُّرَ من صفات الخلق فكانوا ينزهون الله عنه، ما كان أحد فيهم يعتقد أن الله يُغَـيّرُ مشيئته، ولم يكن فيهم من يعتقد أن الله عزّ وجلّ ينتقل من مكان إلى مكان أى يُفْرِغُ مكاناً ليملأ مكاناً ءاخر، لأن الذى يتحرك يكون مُتغيّراً ويكون شيئا له حجم، وما له حد وحجم لا يكون إلهاً بل يكون مخلوقاً. لذلك قال سيدُنا علىٌّ رضى الله عنه: "مَن زَعَمَ أن إلَـهَنَا محدود فقد جَهِلَ الخالِقَ المعبود" يعنى الذى يزعم أن الله شئ له حجم وكمية وهيئة فهو غير عارف بربه أى هو كافر به.رواه أبو نُعَيم الأصبهانى عنه.وكلام سيدنا علىّ هذا يفيد أن الله موجود بلا جهة ولا مكان الصحابة ما كانوا يختلفون فى هذه الأصول. ثم إنهم من حيث الغالبُ كانوا على محبةٍ وَوِئَامٍ فيما بينهم لا سيما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. كانت المحبة بينهم أكيدةً . مثال ذلك أنَّ سيدَنا علياً رَزَقَهُ الله من السيدة فاطمة بنتاً كانت تُسَمَّى أمَّ كُلْثُوم. ثم سيدُنا عمر رَغِبَ أن يتزوجَ من أهلِ بيتِ الرسول ليُحَصّـِلَ بركةً بذلك، فخَطَبَ إلى علىٍّ بنتَه أمَ كلثوم، يعنى بنتَ بنتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فزوجَهُ علىٌّ إياها رَغْمَ أن سِنَّهَا عند ذاك كان دون تِسْع سنين. قال له هى صغيرة لكن إن أعجبتك أُزوجُك إياها. قال لها اذهبى إلى عمر فقولى له هل أعجبتك الحُلَّة؟ والحلة فى الأصل الثوبُ لكن يُطلق من باب الكناية على المرأة. فذهبت إليه فقالت له: يقول لك أبى هل أعجبتك الحلة؟ فقال لها: قولِى نعم. فزوجَهُ علىٌّ إياها، وكان عُمَرُ فى ذلك الوقت خليفة بين الخمسين والستين. وهى كانت وَاسِعَةَ الفَهْم رغم صغر سنها. ومثالٌ ءاخرُ أنَّ سيدَنا علياً كان تَزَوَّجَ أسماء بنتَ عُمَيس، وكان تزوجَهَا قبلَهُ أخوه جعفر ثم بعد موتِهِ سيدُنا أبو بكر. وكلٌّ منهما وُلِدَ له وَلَدٌ منها سماه محمداً. ثم بعد موتِ أَبِى بكر تزوجَهَا علىّ. فيوماً افتخر ولَدَاها محمد بنُ جعفر ومحمد ابنُ أبى بكر، كل واحد قال: أنا خيرٌ وأقربُ أباً. فقال لها علىّ: احكمِى بينهما، فقالت: ما رأيتُ شابًّا أكرَمَ من جعفر ولا شيخاً أكرمَ من أبِى بكر، فصار علىّ يَضحَك وقال: ماذا تركتِ لنا؟
وشهادةُ الزُّورِ.
الشرح: أن من معاصى اللسانِ شهادةَ الزور. والزورُ معناه الكذب وهو من أكبر الكبائر. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شبّهَها بالشرك من عُظْمِهَا من غير أن تكون كفراً.
ومطلُ الغَنِىِّ، أى تأخيرُ دفعِ الدّيْنِ مع غِناَهُ أى مقدِرَتِهِ.
الشرح: أن مَطْلَ الغنىِّ من جملةِ معاصِى اللّسان لأنه يتضمّنُ الوعدَ بالقول بالوفاء أى يَعِدُهُ أنه يَفِى له ثم يُخْلِفُ. فمن هذه الحيثية له علاقة باللسان، فمن فعلَ ذلك جازَ للحاكم أن يعاقبه حتى يفِىَ بالدّين وأن يُحَذَّرَ منه، وذلك لحديث أبى داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَىُّ الواجدِ مَطْلٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ". والواجد الذى عنده ما يدفَعُ به الدين، واللَّىُّ يعنى المطل والتأخير. يعنِى إذا كان يستطيع السَّدَاد وحان الأجل فَتَمَنَّعَ عن دفع الدين جاز أن يُذَمّ للتحذير منه وحلَّ أن يعاقَب أى بالحبسِ والضرب ونحو ذلك.
والشتمُ واللّعنُ.
الشرح: أن من معاصى اللسان شتمَ المسلم بغير حق، وهو ذنب كبير ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فُسُوق، كما روى ذلك مسلم. ومثل ذلك لعنُهُ من غير عذرٍ شرعىٍ، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام شبَّهَهُ من عُظْمِهِ بقتل المسلم بقوله صلى الله عليه وسلم: "لَعْنُ المسلمِ كَقَتْلِهِ" رواه مسلم وغيره. وأما لعذر شرعى فهو جائز وذلك إذا كان فاسقاً للتحذير منه أو لزَجْرِهِ عن معصيتِه. وقال بعضُ الفقهاء إنه لا يجوزُ لعنُ أحدٍ مُعَيـَّنٍ مسلمٍ ولا كافرٍ إلا إذا عَلِمنَا موتَه على الكفر كإبليس وأبِى لهب ونحوِهِما. وقولهم غير صحيح، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام أخبرنا أن المرأةَ التى تمنَعُ زوجَهَا حقه من الجماع وتبيتُ وهو عليها غضبان تلعنها الملائكة حتى تُصبح كما روى ذلك ابن حبان. فلو كان لا يجوز لعن أحد إلا من عُلِمَ موتُه على الكفر كما قال هؤلاء العلماء ما كانت الملائكة تلعَنُهَا. لكن الرسول أخبرنا أنهم يفعلون. وقد لَعَنَ عَلىٌّ زينُ العابدين المختارَ عند الكعبة. وسُئِلَ أحمدُ بنُ حنبل عن لَعْنِ يزيد بنِ معاوية فقال: جائز إهـ. وكل هذا لعنٌ لأناسٍ معيَّنين.
والاستهزاءُ بالمسلمِ، وكلُّ كلامٍ مُؤْذٍ له.
الشرح: أن مِنْ جُملةِ معاصِى اللسانِ الاستهزاءَ بالمسلمِ أى التحقيرَ له. وكذلك كلُّ كلامٍ مؤذٍ له أى بغيرِ حقٍ. ومثل الكلام المؤذى للمسلم الفعلُ والإشارةُ اللذان يتضمنانِ ذلك. فقد يُهينُ الشخص شخصاً ءاخرَ بمجرد الإشارة بيده أو برجله فيكسر قلبه بذلك، هذا مثل الكلام المؤذى حرام.
والكذبُ على اللهِ وعلى رسَولِهِ.
الشرح: أن من معاصى اللسان الكذِبَ على الله عزّ وجلّ وهو من كبائرِ الذنوب. ومثل ذلك فى كونِه كبيرةً الكذبُ على الرسول. ثم هذا الكذب قد يَصل إلى درجةِ الكفر وقد لا يصل. وذلك مثلُ الذين كذَبُوا على الله فزَعَمُوا أن الملائكةَ بناتُ الله، هذا كذبٌ على اللهِ وهو كفرٌ. ومثلُ ذلك فى كونه كفراً مَنْ يَضَعُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً يعلم أنَّ فيه تكذيبا لشريعةِ الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد جاء فى الزَّجْرِ عن الكذبِ على الرسول عليه الصلاة والسلام حديثٌ متواتِرٌ رواه البخارىُّ وغيرُه: "مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمّـِداً فَليَتَبَوّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النار". وهذا زجرٌ بَلِيغٌ عن الكذب على الرسول عليه السلام حتى لو كَذَبَ الإنسان لترغيبِ الناس فى فعل طاعة فهو كبيرةٌ من الكبائر، مثلُ أن يقولَ "قال رسولُ الله من صلَّى صلاة الوتر فله كذا وكذا من الثواب"، وهو يعرف أن الرسول ما قال هذا الكلام. فهذا من كبائر الذنوب.
والدَّعوى الباطلةُ.
الشرح: أن من جملةِ معاصى اللسانِ أن يدَّعِىَ شخصٌ أنّ له على شخصٍ مالاً أو حقاً وهو ليس له عليه هذا المالُ أو هذا الحقُ، سواءٌ كان ذلك اعتماداً على شهادةِ الزور أو اعتماداً على جاهِهِ أو غير ذلك.
والطلاقُ البِدْعِىُّ، وهو ما كان فى حالِ الحيضِ أو طُهْرٍ جَامَعَ فيه.
الشرح: أن من معاصى اللسانِ الطلاقَ البدعىّ. وهو أن يطلّـِقَ زوجتَهُ وهى فى الحيض أو فى النفاس، أو أن يُطَلّـِقَها فى طُهْرٍ جامعَهَا فيه أى أن يُطلّـِقها بعد أن جامعها فى طهر قبل مُضِىِّ ذلك الطُّهر. هذا هو الطلاقُ البِدعِى وهو حرام لكنه يقع. فالطلاقُ ثلاثةُ أنواع: سُنّـِى؛ وبِدْعِى؛ ولا ولا، يعنى لا سُنىٌّ ولا بدعىٌّ.
* النوعُ الأول أى السنىّ هو أن يطلقَ زوجته فى طهرٍ لم يجامعها فيه.
* والنوعُ الثانى أى البدعى هو ما تقدم شرحُهُ.
*والثالث هو لا ولا أى لا سُنّىّ ولا بدعِىّ وهو طلاقُ الصغيرة التى لم تحِض بعد أو الآيِس التى انقطع عنها دمُ الحيضِ أو الحامل. وقولنا "سُـنّى" لا يعنِى أن له ثواباً فى الطلاق على الإطلاق، إنما المعنى أنه وافَقَ الحال التى أذِنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يوقَعَ الطلاق فيها.
والظّـِهَارُ، وهو أن يقول لزوجته أنت عَلَىَّ كظهرِ أُمّـِى أى لا أُجَامِعُكِ. وفيه كفارةٌ إن لم يطلّـِقْ بعدَه فوراً. وهى عِتْقُ رقبةٍ مؤمنة سليمة، فإن عجز صام شهرين متتابعين، فإن عجز أطعم ستين مسكيناً ستين مداً.
الشرح: أن من معاصى اللسانِ الظّهارَ. وهو أن يقولَ لزوجتِهِ "أنتِ عَلَىَّ كظهرِ أُمّـِى"، معنى ذلك التزمْتُ أن لا أجامِعَكِ كما لا أجامِعُ أُمّـِى. وكلُّ ما يُعْطِى مِثْلَ ذلك المعنَى هو ظِهَار، كما لو قال لزوجتِهِ أنت عَلَىَّ كظهرِ أُخْتِى أو كبطنِ أُمّـِى. وليس شرطاً أن يستعملَ كلمة الظهر لكن هى أكثرُ العباراتِ استعمالاً ولذلك سُمّـِىَ ظِهاراً. وكانوا فى الجاهليةِ يعتبرونَ الظهار طلاقاً. أما فى الشريعَةِ المحمدية فلا يُعْتَبَرُ طلاقاً إلا إن نوى به القائلُ الطلاق. وهو من الكبائر، وَوَصَفَهُ ربُّـنَا عزّ وجلّ فى القرءانِ بأنه زُورٌ لأن فيه تشبيهَ الزوجةِ بالأُمّ من حيثُ أمر الجماع. فإن طَلَّقَ الزَّوجُ فوراً بعد الظهار فلا كفارة عليه أى إن أَتْبَعَ الظهارَ بالطلاقِ فوراً. فإن لم يفعل ثَبَتَت عليه الكفارة. ولا يحلُّ له أن يجامِعَهَا حتى يدفَعَ الكفارة وهى: عِتْقُ رَقَبَةٍ مؤمنةٍ سليمةٍ من العيوب المُضِرَّةِ بالعمل، فإن لم يكن عنده عبدٌ يشتري عبدا ثم يُعْتِقُهُ. ولا يُشْتَرَطُ أن يكون هذا العبد ذكراً بالغاً، بل لو كان أنثى أو كان طِفلاً صغيراً أَجْزَأَ. فإن عجز أى لم يكن عندَه عبيد ولا عنده مال ليشترِىَ به عبداً يصومُ شهرين متتابعين. فإن عجز بحيث عَرَفَ من نفسه أنه لا يستطيعُ صيامَ شهرينِ متتابعين لأجل المرض مثلاً فإنه يطعم ستين مسكيناً ستينَ مُدًّا، لكل مسكين مُدّ من غالبِ قوتِ البلد. ولا يُجْزِئُ أن يُطعِمَ ثلاثينَ مسكيناً لكل مسكينٍ مُدَّين، بل لا بد أن يكونوا ستين مسكيناً.
ومنها اللَّحنُ فِى القرءانِ بما يُخِلُّ بالمعنَى أو الإعرابِ وإن لم يُخِلَّ بالمعنى.
الشرح: أنه يحرم إذا قَرَأَ الشخصُ القراءن أن يَلْحَنَ فيه أى أَن يُغَيّر فى القرءان بأن يغير لفظَ الكلمة عمّا أنزلت عليه، سواء كان هذا اللَّحن يُغيّر المعنى أو لا يغير المعنى. ولذلك ينبغى للشخص أن يقرأَ القرءانَ على معلم يُحْسِنُ القراءةَ قبلَ أن يقرأ وحدَه.
والسؤالُ للغَنِىِّ بمالٍ أو حِرْفَةٍ.
الشرح: أنّ من معاصى اللسان أن يَشْحَذَ الإنسانُ المكتَفِى. وفى صحيح البخارى أنّ الذى يفعلُ ذلك يأتِى يومَ القيامةِ وليس على وجهِه مزْعَةُ لَحْم، وذلك لأنه أَرَاقَ ماءَ وجْهِهِ فِى الدُّنيا بالشّـِحاذَةِ فكان عقابُه يومَ القيامة مناسباً لذلك. يومَ القيامة هذا الوجه الذى قابلَ به الناس ليشحذَ منهم موهماً إياهم أنه محتاج مع كونِه عنده الكفاية لا يكون عليه مزعة لحم. أما مَن كان من أَهْلِ الفَقْرِ وليس له سبيل ليكفىَ حاجاتِهِ إلا بالسؤال فسأل فلا إثم عليه. وإن صبرَ وتَعَفَّفَ فهو خيرٌ له. الله مدح فى القرءان فقراءَ المهاجرين الذين كان الناسُ يحسَبونَهُم من التعفُّف أغنياء. قال الله تعالى: {يَحْسَبُهُم الجاهِلُ أغنياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ).
والنذر بقصد حرمان الوارث.
الشرح: أن من معاصى اللسان أن ينذُرَ الرجلُ نذراً يقصد به أن يَحرِم وارثه. كأن ينذر ماله قبل الوفاة لشخص غيرِ الوارثِ ويُشْهِدَ على ذلك ليطالب هذا الشخصُ بالمال عند وفاة صاحب المال مستعيناً بالشهود ليحكم له القاضى بذلك، ويكون قصدُ صاحب المال من هذا الأمر حرمان الوارث. فلو وقع ذلك من شخص بذلك القصد لم يصحَّ ذلك النذر.ومثله أن ينذر أموالَه لبناته لأنه ليس له أولاد ذكور حتى لا يرث إخوته من هذا المال مثلاً، فإنّ هذا حرام والنذر لا يصحّ.
وتَرْكُ الوصية بدَين أو عين لا يعلمهما غيره.
الشرح: أن من معاصى اللسان تركَ الوصية بدين على الشخص أو عينٍ لغيره عنده بطريق الوديعة أو نحوها لا يَعْلَمُ بها غيره إذا خشى ضياع الحق لنحو خشية فجأة الموت. فيجب على من عليه أو عنده ذلك أن يُعْلِمَ به شخصاً من غير الورثة يَثبت بقوله ولو واحداً ظاهرَ العدالَةِ أو يَرُدَّهُ حالاً خوفاً من خيانة الوارث. فإن عَلِمَ بها غيرُه كانت الوصيةُ مندوبة فى حقه عندئذ لا واجبة. ويشمَلُ ما ذُكر ما كان دَيناً لله كزكاةٍ أو لآدمىٍّ. وتسن الوصية لغير المذكور لحديثِ: "ما حَقُّ امرئٍ مسلمٍ يَبِيتُ ليلتينِ إلا ووصِيَّتُهُ مَكتوبةٌ عندَه". رواه البخارىّ.
والانتماء إلى غير أبيه أو إلى غير مواليه أى من أعتقه. كأن يقول أنا أعتقنى فلان، يسمّـِى غيرَ الذى اعتقه.
الشرح: أنَّ من معاصى اللسانِ أن ينتمىَ الرجل إلى غير أبيه، أو أن ينتمىَ المُعْتَقُ إلى غير مَوَاليه أى الذين لهم عليه وَلاَءُ عتَاقة لأن فى ذلك تضييعَ حقٍّ. لأن الولاء يثبت به شرعاً أحكام، ومنها أن المعتِقَ يرثُ المعتَقَ إن لم يكن له ورثة من الأقارب. فإذا ادّعى هذا المُعْتَقُ أنّ شخصاً ءاخر أعتقه يَضِيعُ هذا الحق. وكذلك من الأحكام المتعلقة بهذا الأمر أنه يكون ولِىَّ مُعتَقَتِهِ إن لم يكن لها ولىٌّ للنكاح فى أقاربها. فلو سَمَّتْ هذه المُعْتَقَةُ شخصاً ءاخر غير مُعتِقِهَا على أنه مولاها المُعْتِقُ يضيع هذا الحق.
والخِطْبَة على خِطبة أخيه.
الشرح: أن من معاصى اللسان أن يخطبَ الرجل على خطبة أخيه أى أخيه فى الإسلام. وإنما يحرم ذلك بعد الإجابة ممن تعتبر منه من وَلِىٍّ مُجْبِر أو غير مجبر بدون إذن الأول، أى لو أجاب الولىّ أو مَن تُعتَبر منه الإجابة بقبول الخطبة يحرم أن يخطبَ شخص ءاخر يعلم بهذا الأمر نفسَ المرأة بدون إذن الخاطب الأول. فأما إن أذن فلا حرمة فى ذلك. وكذلك إن أعرض الأول أى غيَّرَ رأيَهُ ولم يعد يريد الزواج منها فهنا تزول الحرمة. ولو كان الخاطب الأول كافراً ذِمّـيّاً خطب كتابيّة امتنع أن يخطبَ المسلمُ على خِطبته. وإنما حرمت الخِطبة على خِطبة أخيه لِمَا فى ذلك من الإيذاء والقطيعة.
والفتوى بغير علمٍ.
الشرح: أَنَّ من معاصى اللسان أن يُفتىَ الشخص بفتوى بغير علم. فمن أفتى فإن كان مجتهداً أفتى على حسب اجتهاده، أى إن تَحَلَّى بصفات المجتهد، ومنها أن يكون حافظاً لآيات الأحكام، وأحاديث الأحكام، عارفاً بلغة العرب والمطلق والمقيد والعام والخاصّ والناسخ والمنسوخ، وأن يكون مسلماً مجتنباً للكبائر غيرَ مُصِرٍّ على الصغائر محافظاً على مروءة أمثاله، وأن يكون قوىّ القريحة. فمثلُ هذا إن أفتى يُفتِى على حسب اجتهاده. فإذا لم يكن الشخص مجتهداً اعتمد على فتوى إمام مجتهد أو استخرج الفتوى من نص صاحب المذهب إن كان أهلاً لذلك. ويجوز أن ينقل فتوى غيرِ مذهب المسئول والسائل. فإن نقَل مِن نسخة كتاب يشترط أن تكون النسخة موثوقاً بصحتها، أو رأى لفظها منتظماً وهو خبير فطن يدرك السقطَ والتحريف. فإن لم يُحَصّـِلْ ذلك قال للسائل وجدتُ كذا فى نسخة من كتاب كذا بلا جزم بِنِسْبَتِهِ للمؤلف. فمن سُـئِلَ عن مسألة ولم يكن عنده علم بحكمها فلا يُغْفِلْ كلمة لا أدرى، فقد جاء عن مالك رضى الله عنه أنه سُئِلَ ثمانية وأربعين سؤالاً، فأجاب عن ستة وقال عن البقية: لا أدرى، روى ذلك عنه صاحبه هيثم بن جميل. ورُوِىَ عن سيدنا عَلِىّ أنه سُئِلَ عن شىء فقال: وابَرْدُهَا على الكبدِ أن أُسْأَلَ عن شىءٍ لا علم لى به فأقول لا أدرى، رواه الحافظ ابن حجر فى تخريجه على مختصر ابن الحاجب الأصلىّ. وقد رَوى إمامُنا الشافعىّ رضى الله عنه عن مالك عن محمد بن عجلان قال: إذا أغفَلَ العالِمُ لا أدرِى أُصيبت مقاتِلُه إهـ. ولا عبرةَ بفتاوى كثيرٍ من الناس بقولهم "رأيُنا كذا وكذا" ممن لم يصلوا إلى درجةِ الاجتهاد المطلق ولا إلى درجة أصحاب الوجوه فى المذهب. فإنه إذا كان بعضُ أقوال بعضِ المجتهدين لا تُعتبر لمخالفَتِها النصوصَ الصريحة فكيف بقولِ ورأَىِ من لم يبلُغ درجة الاجتهاد ممن تَسَوَّرَ مرتَبَةً ليس هو أهلاً لها. نسأل الله أن يحفظَنا من ذلك. بعضُ أعضاءِ حزبِ التحرير قال: "الاجتهاد سهل هذه الأيام يشترِى الإنسان صحيح البخارى ومسلم وبقية الكتب الستة وعنده المصحف، هذه الأيام الحصول على الكتب الستة سهل بسبب المطابع فيستحصلُ الشخص عليها ويجتهد". هذا مثلُ الذى يقول أشترِى خمسةَ خيول من أفضلِ الخيول فأصير فارسَ البلد. ومنشأ هذا الزللِ الجهلُ والعُجْبُ والغرورُ. نسأل الله العصمة من ذلك.
وتعليمُ وتعلُّمُ علم مضر لغير سبب شرعىّ.
الشرح: أن من معاصى اللسان تعليمَ الشخصِ غيره كلَّ علم مضر شرعاً كالسحر وما شابه ذلك، مثلُ علم التنجيم الذى فيه الحكم على الأمور التى تحصل مستقبلاً بناءً على النظر فى النجوم، فإنه أيضاً حرام. ومن جملة المحظورات تعليمُ السفهاء مسائل الرُّخَص ليتخذوها طريقاً لارتكاب المحرمات وتركِ الواجبات.
والحكم بغير حكم الله.
الشرح: أن من معاصى اللسانِ أن يحكم الحاكمُ بحكمٍ مخالفٍ لشرعِ الله تعالى وهو من كبائر الذنوب. ولا يصل إلى حد الكفر إلا إذا زَعَمَ فاعِلُهُ أن هذا الحكمَ أفضلُ من حُكْمِ الله أو مساوٍ له. ومن هنا يُعلَم أن ما قالَه سيدُ قُطبٍ من تكفيره الحكّامَ فى بلاد المسلمين لأنهم يحكمون بغير الشرع ومن تكفير الرَّعيّة لأنهم لا يثورون على هؤلاء الحكّام هو باطلٌ مخالفٌ لدين الله تعالى. يكفِى فى ردِّ ذلك أن رسولَ الله عليه الصلاة والسلام نهانا عن مقاتلة الخليفة لخلعِه إذا ظلمَ ما لم يكفُر كُفراً بواحاً كما روى ذلك مسلم وغيرُهُ. ولم يوافق سيد قطب فى هذا الكلام أحداً من أئمةِ أهل السُّنة، إنما سَلَفُهُ طائفةٌ من طوائف الخوارج يقال لها البَيْهَسِيَّة، وكفى بالمرء خسراناً أن يكون تابعا للخوارج.
والندب والنياحة.
الشرح: أن من معاصى اللسانِ النّدبَ. والندب معناهُ ذكْرُ محاسن الميت برَفْعِ الصوت مع الصُّراخ مثل وَاكَهْفَاه (يعنِى يا مَلْجَئِى) وما شابه ذلك. خطاب الميت بهذه الطريقة التى فيها رفع الصوت مع ذكر محاسنِه هو الندب. والنياحةُ هى الصّياح على صورةِ الجَزَع أى فقدان الصبر لأجل مصيبة الموت هذا هو النياحة. فإذا زيد على ذلك نَشْرُ الشعرِ وتمزيقُ الثّياب كان زيادةً فى الإثم أى إن كان عن اختيار لا عن غلبة.
وكلُّ قول يحثُّ على مُحرَّمٍ أو يُفَتّـِرُ عن واجب، وكلُّ كلام يقدح فى الدِّين أو فى أحد من الأنبياء أو فى العلماء أو القرءان أو فى شىءٍ من شعائر الله.
الشرح: أن هذه قاعدةٌ عظيمةُ النّفع سبَقَ بيانُها فى مواضعِ مُتفرّقةٍ من هذه الرسائل ، لكن يناسب التذكير هنا بأن النهىَ عن الواجب حرام والحثَّ على المعصية حرام، وكثيراً ما يقع الإنسان فى ذلك بسبب أولاده أو أمواله. أحياناً من شدةِ محبة الشخص لأولاده ينساق معهم إلى ما يريدون من المعاصى. ومثلُ هذا داخل تحت قول الله تعالى: {إنَّ من أزواجكم وأولادِكم عدوًّا لكم}[2]، وقوله تعالى: {إنما أموالُكُم وأولادُكم فتنةٌ}[3] ، وعلى مثلِ ذلك ينطبق حديثُ رسول الله r عن الولد: "مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ" رواه البزار ، مبخلةٌ يعنى سبب للبخل ومجبنة أى سبب للجبن. وذلك مثلُ الذى لا يدفع الزكاة حتى يُجَمّـِع المال لأولادِه، أو لا يدفع ما يجبُ عليه دفْعُهُ فِى سَدِّ الضرورات كمثلِ مكافحة الكفر لأجلِ أن يُجمّعَ لأولادِه المال. رُوِى أنّ واحداً من السلف باعَ أرضاً له بمالٍ عظيم، فلَمّا عرَفَت زوجتُه بذلك قالت له: لو أنك تُعْطِى هذا المال لإنسان يتاجر لنا فيه فيدخل علينا منه مال نتوسع به فى المعيشة. فى اليوم الثانى جاءها وقال لها: وضعتُ المال فى موضع لا نخسَرُ فيه بل على الأقل الربح عشرة أضعاف، فَفَرِحَت ثم كلَّ مدة كانت تسألهُ عن ذلك المال، فقال لها بعد وقت إنه تصدق به كله.
ويُرْوَى عن أحدِ الصالحين أنه كان قَبْلَ أن يخرُجَ من بيتِه تقولُ له بنتُهُ: يا أَبِـى اِتقِ الله فينا ولا تُطْعِمْنَا إلا من حلال إهـ.
(معاصى الفم ) ومنها التزمير.
الشرح: أن من معاصى الفم التزميرَ أى الضربَ بالمزمار بكافة أنواعه، ما يستعملُ فى الحروب وما يستعمل فى البوادى وما يستعمل فى الأعراس وغيرُ ذلك، قال القرطُبِىُّ:لم أسمع عن أحد ممن يُعْتَبرُ قولُه أنه يُبيحُ المِزْمَار إهـ. فما قاله بعض الشافعيةِ وبعض الحنفيةِ فى حِلِّ ذلك هو قول شاذ لا يلتفت إليه.
والسكوتُ عن الأمرِ بالمعروف والنهىِ عن المنكر بغير عذر.
الشرح: أن من معاصى اللسان السكوتَ عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بلا عذر شرعىّ. يعنى أن يسكت عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهو ءامِن على نفسه ونحو ماله معَ قدرته على الأمرِ أو الإنكارِ. فإذا تعـيَّن الأمرُ والنهىُ عليه ثم لم يأمُر ولم ينهَ فهو ءاثم. فإن كان فرضَ كفاية وقام به غيرُه بحيث سُدَّت الكفاية فلا إثم عليه. وهنا ينبغى الانتباه إلى أمر مهم وهو أنه يُنْكَرُ المُجْمَعُ على كونه منكراً. وأما المختلفُ بين أهلِ الاجتهاد فى كونه منكراً فلا ينكر على من يعتَقِدُ حِلَّهُ، إنما يجوز أن يُقَالَ له "خيرٌ لك أن لا تفعل هذا الأمر"، لكن لا يُقَالُ له "أنت ءاثم بما تفعل" لأن الأمر مختلف فيه فيجوز له أن يقلدَ هذا المجتهد كما يجوز له أن يقلدَ ذاك المجتهد. إنما يُنكَر المنكرُ المُخْتَلَفُ فيه على من يفعلُه وهو يعتَقِدُ حُرمَتَهُ.
وتركُ الأمرِ بالمعروف والنهىِ عن المنكر كبيرةٌ من الكبائر.
وكتمُ العلم الواجب مع وجود الطالب.
الشرح: أن من معاصى اللسان أن تعرِفَ طالباً يطلُبُ منك أن تدرّسه الفرض العينىّ من علم الدين ثم مع ذلك تهمل هذا الأمر، لا تطلب من غيرك أن يُدَرِّسَهُ ولا أنت تُدَرِّسُهُ. هذا ذنبٌ من معاصى الفم. وقد روى ابن ماجه والحاكم وغيرهما عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: "من سُئِلَ عن علمٍ فكتمه أَلجمه الله بلجام من نار يوم القيامة". وقد ذكر الفقهاء أن تعليم العلم يكون فى حال فرض عين وفى حال فرض كفاية. فمثالُ فرضِ العَيْنِ أن تَعْرِفَ أنه لا يوجد غيرُكَ لتعليم الطالب ما أوجب الله عليه معرفَتَهُ من أمور دينه فهنا تعليمُهُ فرضُ عين عليك.
فائدة: تأهيل قسم من الناس ليبلُغوا مرتبة الفتوى من فروض الكفاية.
والضَّحِكُ لخروج الريح أو على مسلم استحقاراً له.
الشرح: أن من معاصى الفَم الضَحكَ على مسلم إذا أخرج الريح، أى إذا لم يكن الضاحكُ مغلوباً أى إذا لم يخرج منه الضحك بغير إرادته. لأن الضحك على المسلم لأجل أنه أخرج الريح يكسِرُ قَلْبَهُ فهو حرام. ومثله أَىُّ ضَحِكٍ فيه إيذاء للمسلم، كما لو ضحك استحقاراً له.
وكتم الشهادة.
الشرح: أنَّ من جملةِ معاصى اللسان كتمَ الشهادةِ الواجبةِ التي فيها إحقاق حق أو إبطال باطل. وذلك فيما إذا طَلَبَهُ القاضى للشهادَةِ، فأما إِنْ لم يطلُبْه القاضى للشهادة فليس له أن يبادرَ ليشهد، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَمَّ الذين يشهدون قَبْلَ أن يُسْتَشْهَدُوا كما رواه الترمذىُّ وغيره. وهذا فى غيرِ شهادَةِ الحِسْـبَة، مثلَمَا إذا عرَفَ شخص أن رجلاً ءاخر طَلَّقَ زوجَتَهُ طلاقاً بائناً بالثلاث بحيث لا تَحِلُّ له بعد ذلك وهو مع ذلك ما زال يعاشرُها. فى هذه الحال لو لم يُرْفَع عند القاضى دعوى يجوز له أن يذهب إلى القاضى فيشهد و يقول له الحال كذا وكذا أنا أشهد على ذلك. هذه يقال لها شهادةُ الحِسْبَة. أما فى غيرِ نحو ذلك فلا يفعل إلا إذا طلبَه أحد الخصمين فيشهد عند ذلك.
وتَرْكُ ردّ السلام الواجبِ عليك.
الشرح: أن من معاصى اللسان تركَ ردِّ السلام الواجب عليك عَيْنِـيّـاً ردُّه، وذلك بأن يصدُرَ ابتداءُ السّلام من مسلمٍ مكلف على مسلمٍ بعينه، ففى هذه الحال لا بد من رد السلام عليه. وبقولنا مسلم أخرجنا الكافر فلا يجبُ ردُّ السلام عليه بل يَحْرُمُ. فإذا قال الكافر السلام عليكم يحرم أن يقال له: وعليكم السلام. وبقولنا المكلف أخرجنا غيرَ المكلّف فلا يجب ردُّ السّلام على المجنون، ولا يجبُ ردُّ السلام على الطفل الذى لم يبلغ بعد. أما لو صَدَرَ السّلامُ من مسلمٍ على جماعةٍ مكلفين فرَدُّه فرضُ كفاية فلو ردّ البعض منهم سقط الحرجُ عن الباقين. ولو سلَّمت شابةٌ على أجنبىّ لم يجب الردُّ عند ذلك، وإن كان جائزاً ليس حراماً. وما ذكره بعض المتأخرين من إطلاق تحريم ابتداء الرجلِ المرأةَ بالسلام أو بالعكس فليس بجيدٍ أى أنّ إطلاقَهُم هذا الأمرَ ليس بجيد. وقد ثبت أن رسولَ الله عليه الصلاة والسلام سَلّمَ على بعضِ النسوَةِ، كما روى ذلك أبو داود وغيره.
وتحرم القُبلةُ المحرّكة للمُحرِم بنُسُكِ حجٍ أو عُمرَة، أو لصائم فرضاً، أو من لا تحل قبلته.
الشرح: أن من معاصى الفم أن يُقَبّـِلَ الشخصُ من لا يَحِلُّ له تقبيلُهُ. ويَشْمَلُ ذلك تقبيل الزوج زوجَتَهُ إذا كان محرماً بحجٍ أو عمرة وكانت القبلة محركةً للشهوة. وكذلك إذا كان صائماً صيامَ فرض فقبَّلها قبلة محركة. وأما لو قَبَّلَهَا قُبلَةً غير محركة للشهوة أى قبلة شفقة فلا يحرم ذلك. وممن يحرم قبلتُه الأجنبيةُ-أى غير الأم والأخت ونحوهما من المحارم-سواءٌ كان ذلك بشهوة أم بغير شهوة. وشَذَّ فى هذ الزمن طائفةٌ أَضَلَّهُم الله تعالى يقال لهم حزب التحرير فزَعموا أنه يجوزُ تقبيلُ الأجنبية. قالوا "القُبلة عبارة عن تحريك الشفتين وتحريكُ الشفتين ليس محرماً"، ومن اعتقد مثلَ هذا فهو كافر بلا شك. قولهم هذا يقال له اجتهاد بخلافِ النّص ولا يقام له وزن. وقد عدّ بعضُ الفقهاءِ فى جملةِ المعاصى نسيانَ القرءان بعد أن تعلَّمَهُ الشخصُ. وهذا غيرُ صالح، لأن النسيان لا إثمَ فيه. وحديث أبى داودَ: "عُرِضَتْ عَلَىَّ ذنوبُ أُمَّـتِى فلم أرَ ذنباً أعظمَ من ءايةٍ أوتِيَها رجل فنسيَها" غيرُ صحيح. وَحَمَلَ بعضُ الفقهاءِ النسيانَ فى هذا الحديث على معنى تركِ العمل، لا على معنى أن يَغِيبَ النص عن الذهن، أى أَوَّلُوا هذا الحديث، ورُوِىَ هذا التأويل عن أبى يوسف تلميذ أبى حنيفة وهو سائغ لغةً لأنه فى لغة العرب يقال نَسِيَهُ بمعنى ترَكَهُ، كما فى قوله تعالى: {فاليومَ ننساهُم} ومعناه نتركهم فى النار. وعلى كل حالٍ الحديثُ غيرُ صحيح فلا يُحْتَجُّ به لتحريم مجرد نسيان نص القرءان.
[1] سورة التوبة، ءاية 101.
[2] سورة التغابن، ءاية 14.
[3] سورة التغابن، ءاية 15.[/b]