صور من الروايات التي تصف أحداث الحصار والموقف الإسلامي والبيزنطي: على أي حال أصبح اليون إمبراطوراً جديداً للدولة البيزنطية، وصار تبعاً لذلك المسؤول الأول عن الدفاع عن القسطنطينية وتخليصها من الأزمة التي تعيشها، وأسفر عن ما كان يخفيه عن المسلمين من المخادعة والمكر، ومحاولة إضعافهم بكافة ما يستطيع من الوسائل والسبل، ولا غرابة في ذلك؛ فهو يبني لنفسه مجداً، و ينافح عن بني دينه ووطنه . وظهر لمسلمة بن عبد الملك خطؤه، واشتد أسفه، وغلبته كآبة وهم عظيم ( 122) ، ولكن هيهات بعد فوات الأوان . وهنا نقف بعد أن تكشفت الأمور عند بعض الأحداث أثناء الحصار لاستجلائها، ومعرفة الموقف الإسلامي والبيزنطي أثناء وغِبَّ ذلك . • استعراض القوى: يصف الليث بن تميم الفارسي وهو أحد المشاركين في الحملة البحرية مشهداً أثار انتباهه وتعجبه؛ فذكر أنه بعد أن تكاملت القوى الإسلامية أمام أسوار القسطنطينية صف المسلمون قواتهم صفاً طويلاً جداً، أو صفين ـ لم ير الليث مثلهما في حياته ـ مع الكراديس (123) الكثيرة، وأظهروا (السلاح في ألف مركب بين محرقات وقوادس فيها الخزائن .. والمعينات فيها المقاتلة ) (124) ، وذلك لاستعراض القوى أمام العدو، وبث الرعب والخوف في النفوس، وقد فعلوا مثل ذلك في الحصار الأول . ولم يجد إمبراطور الروم بداً من مسايرة المسلمين وإظهار التحدي فصف " رجاله فيما بين الحائط والبحر صفاً طويلاً بحذاء صف المسلمين " وأظهروا السلاح (125) . • وفد مسلمة إلى اليون: فيما حفظ لنا محمد بن عائذ عن شيخه الوليد بن مسلم عن يزيد بن جابر خبر السفارة التي بعث بها مسلمة بن عبد الملك إلى اليون في القسطنطينية، بعد أن ظهر منه المكر والخديعة، وانحاز إلى صف الروم وصار ملكاً عليهم، لتناقشه في نقض ما أبرم معهم من اتفاق، وتناشده وفاء العهد: (( أين ما كنت عاهدت الله عليه من النصيحة لنا وإدخالنا إياها؟ )) ، قال بعد أن أذن لهم، وعرف أفراد الوفد ( 126) : (( لئن ظن مسلمة أني أبيع ملك الروم بالوفاء له لبئس ما ظن )) ، وعرض عليهم أن يصنع لمسلمة وللجيش طعاماً وحماماً، فيدخلون ويصيبون من الطعام والحمام ثم ينصرفون، فردّ أفراد الوفد بحزم رافضين ذلك، وأنهم لن يبرحوا إلا بدفع الجزية عن صغار أو يدخلوا المدينة عنوة، فقال اليون: (( إن دون ذلك لصغاراً وقتالاً شديداً .. )) ثم دعا بغداء فغداهم من الألوان و الطرائف، ليظهر للوفد عدم تأثرهم بالحصار، و ليؤكد ذلك أوعز للوفد بأن يطلبوا ما يشاؤون ويتشهّوا،فقال البطال: (( كفاً من تراب من خلف الخندق )) ( 127) ، فغضب وأمر فخرجوا من عنده،وأتوا مسلمة بما كان بينهم ( 128) أثبتت هذه الرواية وقوع المسلمين في الخدعة نتيجة الغفلة عن المنهج الرباني في التعامل الصحيح مع أهل الشرك؛ قال تعالى: ] كيفَ يكونُ للمشركينَ عَهْدٌ [ [التوبة: 7 ] أي أَمَانٌ، وقال: ] كيفَ وإنْ يَظهروا عليكم لا يَرقُبوا فيكم إلاًّ ولا ذِمةً يُرضونكم بأفواههمْ و تأبى قلوبهمْ وأكثرهمْ فاسقون [ [ التوبة: 8 ]، ذكر ابن كثير رحمه الله تعالى بصدد هذه الآية تحريض الله تعالى للمؤمنين على معاداة الكفار والبراءة منهم، وأنهم لا يستحقون عهداً ولا أماناً لشركهم بالله تعالى وكفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ، ولأنهم لو ظهروا على المسلمين لم يبقوا ولم يذروا (129) . هذه الرواية أكدت ما رجحنا من قبل وهو أن الاتفاق المبرم كان بين مسلمة بن عبد الملك واليون عندما تكاتبوا وأشهدوا على ذلك (130) ، وليس بين اليون وسليمان، وأن اليون عرف أفراد الوفد، مما يدل على لقاء سابق بهم قبل هذا اللقاء، و أثبتت غدر اليون ونكثه لما أبرم مع المسلمين من المناصحة وتسهيل دخول المدينة . وفيها ما يؤكد ارتفاع روح المسلمين المعنوية مع بعد الدار وكَلَب العدو عندما أعلنوا أمام الملك ـ في تحدّ ـ أنهم لن يبرحوا إلا بدفع الجزية عن صغار، أو فتح المدينة عنوة . وأظهرت نباهة هذا الملك وحزمه عندما رفض غاضباً أن يعطيهم شيئاً من تراب المدينة، لا كما فعل نظيره الفارسي الذي حمَّل وفد المسلمين ـ في نزق ـ وقراً من تراب، تفاءلوا به في فتح بلاده ( 131) . • وفدُ ملك الروم إلى مسلمة وابن هبيرة في بذل الفداء وطلب الصلح: وعند ابن عساكر في رواية أخرى لابن عائذ عن شيخ من موالي ابن هبيرة عن عمر بن هبيرة القائد البحري لأسطول المسلمين المحاصر للقسطنطينية ذكر فيها قصة مجيء رسول ملك الروم إليه، مستجدياً إياه في التوسط لدى القائد العام مسلمة بن عبد الملك لقبول عرض الفداء الذي تقدم به إليه الملك، فرفضه مسلمة، وهو أن يدفع (فدية صلح على كل إنسان بالقسطنطينية من رجل وامرأة وصبي (132) ديناراً ديناراً، على أن ترحلوا عنا إلى بلادكم ..)، فأصرَّ مسلمةُ على أن يؤدوا الجزية عن صغار، أو يدخل البلد عنوة . قال رسول الملك في استجدائه لابن هبيرة ـ بعد أن حكى له ما شاهد من سوء أحوال المسلمين مما حاول ابن هبيرة ستره عنه ـ : (( الصغارُ ما لا تطيب به أنفسنا أبداً .. )) ، وطلب منه أن يتوسط لدى القائد مسلمة لقبول العرض، فرد عليه ابن هبيرة من فوره بصواب رأي مسلمة، وأنه غير مخالف له وأنه عونه على ما يريد، وأن ذلك ما أمر الله تعالى به، فغضب الرجل وصلَّب على وجهه وانصرف إلى أصحابه ( 133) . إن تقدم الروم بهذا العرض على مسلمة ثم على ابن هبيرة دليل على شدة الضراء التي كانوا بها من جراء الحصار المضروب على مدينتهم، حتى وإن لم يكن محكماً من ناحية الشمال، وحتى مع علمهم بسوء أحوال المسلمين فقد نفد صبرهم، وتطلعوا إلى إنهائه و التخلص منه وبذلوا في ذلك أموالهم . وهنا ما يدل أيضاً على سمو الروح المعنوية لدى المسلمين، وأنهم لا تُنَهْنِهُهُمْ الصعاب، ولا يغريهم بريق المال، وأنهم عندما يسيرون في جهادهم لأعداء الله تعالى وفق ما شرعه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم يرهبونهم، وتحصل لهم العزة، ويتصل حبلهم بالله سبحانه . وفي هذا النص ما ينبئ عن تلاحم القيادة الإسلامية، واتحاد كلمتها أمام عدوها . هذا وكشفت بعض النصوص عن وجود عناصر عربية نصرانية كانت تعيش في بلاد الروم وكانت تقاتل جنباً إلى جنب في صفوفهم، بل كان بعضهم شديداً على المسلمين؛ كما في قصة خالد بن عمير السلمي الذكواني في مبارزته وصراعه مع الرجل الإيادي أثناء فترة الحصار، والتي انتهت بأسْره، ثم بعثْه إلى هشام بن عبد الملك وهو بحرّان، فقتل بين يديه لما أصر على الكفر ( 134) . • استغاثة اليون بملك برجان (البلغار Bulgar ) ( 135) وما كان بينهم وبين المسلمين: ولعل من أهم ما حدث أثناء فترة وقوف المسلمين على القسطنطينية عندما ألظّ بأهلها الحصار استنجاد إمبراطورهم اليون بملك البرجان؛ ترفل Tervel ، وتخويفه من المسلمين، فتحرك هذا الأخير وأوقع بالمسلمين وقعة عظيمة في مخادعة منه كما سنرى بإذن الله تعالى . وقد وردت إشارات موجزة لدى بعض المؤرخين الأقدمين تومئ إلى ما حصل بين المسلمين وبرجان؛ كما عند الطبري رحمه الله تعالى فيما رواه عن الواقدي؛ حيث ذكر في أحداث سنة 98ه إغارة برجان على مسلمة بن عبد الملك وهو في عدد قليل من المسلمين، فطلب المدد من أخيه سليمان فأمده، وذكر مكر الصقالبة، ثم هزيمتهم بعد ذلك، وفتح المسلمين لمدينتهم (136) . لكن التفصيل الشافي لتلك الأحداث هو ما رواه ابن عساكر رحمه الله تعالى بسنده عن شاهدي عيان مشاركين هما الليث الفارسي وأبو سعيد المعيطي (137) ، وهذه الرواية أقرب ما تكون إلى الحقيقة لقرب رواتها من الحدث، وللتجرد من الهوى؛ فليس هناك ما يدعو إليه، و ملخص هذه الرواية: أن اليون كتب إلى صاحب برجان بعد أن اشتد عليه الحصار وخاف ظهور المسلمين يخبره بنزولهم على بلده و يستصرخه لنجدته وقال مخوفاً له إنهم: (( إنما يقاتلون الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى .. )) (138) . وقد استجاب ملك برجان لهذا النداء سريعاً، ونظراً لأن مسلمة لم يعلم بخبر هذه المراسلة فقد أظهر له ملك برجان في كتاب إليه فرحه بغزو المسلمين لبلاد الروم، وعرض عليه المساعدة، فكتب مسلمة إليه بحاجته إلى الميرة والسوق فقط، فاهتبل الملك هذه الفرصة وكتب إلى مسلمة يخبره بإعداد سوق عظيمة للمسلمين في مكان اختاره تحيط به الجبال و الغياض، فلما نزل المسلمون بذلك المكان يريدون التسوق على غير حذر أو خوف من عدو ـ وكان مسلمة قد ولى عليهم رجلاً ـ أحاطت بهم كتائب برجان فقتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا، ثم عادوا إلى بلادهم . وجاء الخبر إلى مسلمة ومن معه من المسلمين فأغمهم ذلك وأزعجهم ( 139) . مما يلفت النظر في هذه الرواية تعاضد قوى الكفر لحرب الإسلام ومناهضة المسلمين؛ فلم يصرفهم عن هذا اختلاف الدين أو الجنس أو وجود العداوة بينهما، بل كانت المبادرة سريعة من قبل برجان، لإنزال ضربة غير متوقعة بالمسلمين . ويلفت النظر كذلك تخلي مسلمة بن عبد الملك عن الحذر في مثل هذا الموقف الخطر الذي ينبغي فيه الاحتياط وأخذ الأهبة للعدو، وعدم الركون إلى ما يُظهر من اللين أوالموادعة أوالموافقة، ولاسيما أنهم في حالة حرب، وأنهم ما زالوا يتجرعون غصص غدر اليون بهم . لم تبين الرواية حجم الإصابة التي لحقت بالمسلمين؛ لا عدد القتلى، ولا المأسورين، ولا الفارين، لكن يفهم منها أن مصيبة المسلمين كانت فادحة، لمباغتة العدو لهم على غير أهبة أو استعداد، والتعبير بقوله: (( فقتلوا ما شاءوا وأسروا ما شاءوا إلا من أعجزهم )) ( 140) يوحي بذلك، وقريب منه قول ابن كثير: (( فقتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين وأسروا آخرين، وما رجع إلى مسلمة إلا القليل )) ( 141) . ويتضح من هذه الرواية عدم دقة رواية الواقدي التي أومأنا إليها قبل قليل ـ كما رواها الطبري ـ والتي تفيد أن برجان أغاروا على مسلمة نفسه وهو في قلة من الناس، والأمر ليس كذلك لأن إغارتهم كانت على المسلمين الذين رغبوا في التسوق وكان الوالي عليهم رجلاً آخر من قِبَل مسلمة لا مسلمة نفسه . ويستفاد من روايات شهود العيان هذه أنها حفظت لنا ألفاظ المخاطبات التي جرت بين اليون وملك برجان وبين هذا ومسلمة ( 142) . وتمضي الروايات في رصد ما جرى بين المسلمين و البرجان في ضوء تتابع الأحداث، مشيرة إلى الموقف الإسلامي الذي اتخذ بعد مصاب المسلمين؛ فقد وُجِّهَ جيش قوي كثيف إلى بلادهم عليه عبيدة بن قيس وابنه شراحيل بن عبيدة، ومضى هذا الجيش حتى دفع في أرض برجان، وكان العدو قد نذر بالمسلمين فلقوهم متأهبين، فكان بينهم قتال شديد، فأنزل الله تعالى نصره على المسلمين، فقتلوا من الكفار مقتلة عظيمة، وسبوا وأسروا وخلّصوا أسرى المسلمين،كما تجلت المعركة عن قتل صاحب برجان، وقتل شراحيل بن عبيدة رحمه الله تعالى . وكان عبيدة قد أراد أن يوغل في أرض العدو بعد هزيمتهم، لكن صرفه عن ذلك رسول مسلمة الذي استعجله بالقدوم بعد أن فتح الله عليه ( 143) . وتؤكد أغلب المصادر الإسلامية على فتح المسلمين لمدينة الصقالبة (144) ، مما يدل على أن نصرهم كان حاسماً في معاركهم مع برجان . وتشير الروايات بعد ذلك إلى لطف الله تعالى بالمسلمين حيث صرف عنهم كيد عدوهم عندما أضرموا النار في الحشيش اليابس الذي ينزل عليه المسلمون، فأطفأها الله عنهم (145) . كما تشير إلى أسماء بعض المجاهدين الذين خرجوا ابتغاء الحصول على الشهادة فرزقوا إياها، ورأوا بشائر صدقهم وإخلاصهم في نزلهم بالجنة وهم ما زالوا على قيد الحياة (146) . • تحقيق في روايات إرسال المدد: ثم ماذا عن إرسال الإمدادات؟ هل أمدَّ سليمان بن عبد الملك الحملة بقوى جديدة بعد أن وصلت إلى القسطنطينية وحاصرتها، ثم بعد أن تطورت الأحداث فصارت الأمور تسير في غير صالح الجيش المحاصِر؟ من مطالعة الروايات في المصادر المختلفة نجد أن هناك اختلافاً من مصدر لآخر، بل حتى في المصدر الواحد نلاحظ تناقضاً في الروايات؛ فبينما تثبت روايات كل من اليعقوبي (147) وابن كثير (148) إرسال المدد، تجد روايات لدى كل من الطبري (149) وابن عساكر (150) وابن الأثير (151) تنفي ذلك، في الوقت الذي تجد فيه روايات أخرى لديهم أنفسهم تثبته (152) . وبعد فحصٍ وتدقيق فيما وقفت عليه من روايات في هذا الشأن، ترجح لديَّ ثبوت إرسال سليمان بن عبد الملك الأمداد إلى أخيه مسلمة في أعقاب وقعة برجان ومصاب المسلمين، عندما بعث إليه بخبرها، ومستندي في ذلك وجود رواية مصدرها شاهدا عيان هما الليث الفارسي وأبو سعيد المعيطي، جاءت روايتهما صريحة في هذا الصدد (153) . ثم إن سليمان كان مرابطاً في دابق شمالي الشام لمتابعة أخبار الحملة عن قرب، وللإمداد وقت الحاجة، لكن يبدو أنه لم يستطع في آخر المدة بعد أن اشتدت الأزمة على المسلمين أن يمدهم لحلول فصل الشتاء ببرده وثلوجه (154) ، ومداهمة أجله إياه رحمه الله تعالى، وإلا فقد عقد العزم على أن لا يرجع إلى دمشق حتى تفتح القسطنطينية، باذلاً في سبيل ذلك ما بذل، أو يموت،فمات هنالك ( 155) . وبهذا يزول التناقض الذي قد يظهر في روايات المؤرخين المشار إليها . • فك الحصار عن المدينة وتحرير مدته: